مقالات

قصتي مع رسالة ابن زيدون الهزلية

الأستاذ يعقوب بن اليدالي

قصتي مع رسالة ابن زيدون الهزلية
******
كان من عادة الأسرة أن يبادروا بإرسالي إلى قرية انيفرار، مع بداية العطلة الصيفية، وكان الوالد حفظه الله، يلفت انتباهي إلى أهمية استغلال الوقت، ويقول لي دائما إن ثلاثة أشهر تمثل ربع سنة، ويمكن توظيفها في تحصيل العلوم الشرعية وعلوم الآلة، كما كان يحثني على التحلي بالقيم والأخلاق الإكيدية، ويقول لي إنها مكتسبة من خلال المعاشرة، ومحاولة التشبه بأفاضل الأهل والتخلق بأخلاقهم حتى ترتكز القيّم والمُثُل في النفس.

خلال فترة التسعينات كانت سيارات تابعة لرجال أعمال من الحسنيين، تربط العديد من قرى منطقتي إيكيد والعقل بالعاصمة، حيث تغادر سيارات من نوع “تويوتا” العاصمة بعد صلاة الظهر، حاملة الرجال والأثقال وبعض ربات الحجال، فتولي وجهها شرقاً، سالكة طريق الأمل، وعندما تصل إلى قرية *”اندومري”* التي تبعد مائة كيلومتر عن العاصمة، تنعرج ذات اليمين سالكة طريقاً رملياً وعراً طوله يناهز ثمانين كيلومتراً، تتخلله الكثبان والسهول، ويمر بقرى سند والمسومية وآمنيكير، وتعتبر قرية *انيفرار* بمثابة المحطة الأخيرة لتلك الرحلة اليومية.

أدرت عمامتي حول رأسي، وغطيت بها معظم وجهي، لتقيني حر الشمس، وجلست القرفصاء في مؤخر السيارة، مسنداً ظهري إلى عمود فولاذي، وأدرت ناظري في وجوه رفقاء الرحلة، ولم أتعرف على أحد منهم، وبدأت قراءة دعاء السفر وتحصن المسافر، ثم طفق السائق الكيس *”إبراهيم بن السالك”* يقود سيارته متجاوزاً حدود العاصمة، يتوقف مرة إما ليدقق أفراد القوات الأمنية في أوراق السيارة ومدى احترام السائق للحمولة المنصوص عليها قانوناً، أو ليشتري الركاب خبزاً ونعناعاً وبعض الحلويات لتفريقها، على الأهل والأقارب بعد القدوم، وهي عادة محمودة تجسد مفهوم صلة الرحم، وقد أشار الأديب الأريب *باب بن هدار* رحمه الله، في إحدى مساجلات لهدادرة العائلية الطريفة إلى أن “لفروح” هو الذي يفصل بين المسافر والمقيم، فقال:

تِمْشِ وِاتْجِ فِبْلَدْ
أُتِمْشِ مَا نِعْلِمْ بِيكْ
وِاتْجِ، مَا يَفْصَلْ حَدْ
بَيْنْ امْجِيكْ أُمَشِيكْ

بدأ الشق الشاق من الرحلة قبيل غروب الشمس، فتناقصت سرعة السيارة، وخفت الرياح القوية التي كانت تحول دون حوار الركاب فيما بينهم، وقد لفت انتباهي رجل أربعيني خلوق وكيس، كان يجلس إلى جانبي، يوحي محياه بأنه يقوم الليل، يضع لثامه الأبيض على رأسه ويسدل عذبة عمامته بين كتفيه، وقد حرص طيلة الرحلة على أن راحتي، وقد استنتجت من حديثه مع المرافقين، أنه متجه إلى قرية “المسومية”، وسألني بعد أدائنا لصلاة المغرب عن وجهتي، فقلت له إنني قاصد قرية انيفرار فردد مراراً كلمة “وخيرت”، وبعدما رجعنا إلى السيارة، حدثني بموضوع طريف، ملخصه أنه اقتنى منتصف الثمانينات كتاب “فتاوي الشياطين” للشيخ *الأديب محمد فال بن عبد اللطيف*، و بعدما طالعه جلبه معه إلى القرية ليتحف به رفقاؤه وأقاربه، وأثناء غيابه مر أحد أقاربه بالبيت ورأى الكتاب، ولما طالع العنوان، استشاط غضباً واستعاذ من همزات الشياطين، وأضرم النار فيه، ولما عاد صاحبنا إلى بيته لم يفلح في إقناع أقاربه وأصدقائه بطرافة وظرافة الكتاب وبعد غور مؤلفه، وأنه يعتبر نسيج وحده في موضوعه وفي القضايا التي عالجها مؤلفه، فقرر العودة إلى العاصمة، واشترى نسخة جديدة من فتاوي الشياطين، ولما طالعها أترابه وأقاربه أعجبوا بها أيما إعجاب، وفهموا الدرر التي بثها المؤلف بين السطور، والإسقاطات الأصولية والنوازلية التي وفق فيها.

بعدما تجاوزنا *”ريعة سند”* وهي محطة مشهورة لدى سالكي تلك الطريق، بدأ الرجل المثقف يسترجع من حفظه نصاً أدبباً مسجوعاً لم أسمع به من قبل، كان النص حسن الصياغة قوي السبك، تشير كل فاصلة منه، إلى معلومة تاريخية، أو نكتة نحوية، أو مثل سائر، أو شخصية قيادية أو علمية، وحاولت أن أعي بعض العبارات لتكون بمثابة كلمات مفتاحية معينة لي في عملية البحث عن النص مستقبلاً.

*يتبع إن شاء الله*

*يعقوب بن اليدالي*

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق