مقالات

ليش ضيّعت مستقبلك يا دكتور؟

د محمد عيّاش الكبيسي

 

ليش ضيّعت مستقبلك يا دكتور؟

في جامعة بغداد ما بين 1980-1984 كانت صحبتنا الممتعة والمفيدة مع أستاذنا الدكتور علي جابر المنصوري -رحمه الله-.
عرفته أستاذا حريصا شغوفا بالعلم محبا لطلابه، يتباهى بمكتبته المتنقلة -على حدّ تعبيره- والتي جمعها في رأسه، يمشي كالطاووس مزهوا مرفوع الرأس -على كبر سنّه-، لا همّ له في الدنيا إلا مقارنة أبي نؤاس بامرئ القيس، والمتنبي بابي تمام، ونازك الملائكة ببدر شاكر السياب -مع أنه كان (سلفيا) في الشعر رافضا للتجديد ومتهكما بالشعر الحر-، كان ناقدا ساخرا وسريع البديهة، أذكر أنه كان يردد دائما عبارة: (ملعون أبو الدنيا) -مع تحفظنا عليها- وذات يوم قال لي: ابني محمد أريدك تختار بحث التخرج في الأدب العربي عندي، قلت: معذرة أستاذي لقد اخترت مع زميلي عمر عبد العزيز العاني أن نبحث في رسائل (ابن أبي الدنيا) في الحديث، فضحك وقال: (هذا أبو الدنيا طلع عنده ابن؟)
في يوم من الأيام جاءنا وهو منزعج بعض الشيء، جلس على منصته المرتفعة، ثم وجّه سؤالا لطالب كان منشغلا عنه، فأجابه الطالبُ جوابا خاطئا، فقال له الدكتور: تأخذ بنصيحتي ابني؟ ابق كذلك، لا تتعلم، لا تقرأ ولا تكتب، فالمستقبل لكم!
ثم التفت إلينا وقال: البارحة صُدمت سيارتي، أخذتها لكراج التصليح، طلب مني السمكري أجرة باهظة، قلت له: ابني اجرتك ليوم واحد أكثر من راتبي لشهر وأنا بروفيسور ودكتور جامعي! فقال لي: “ليش ضيّعت مستقبلك يا دكتور”؟!
.
أستاذي البروفيسور ليتك معنا لترى أن “التلميذ الفاشل” الذي كنت تشكو منه ليس شرطا أن يذهب اليوم ليعمل في الحدادة أو النجارة أو السمكرة فهذه مهن شريفة ومفيدة، اليوم يا أستاذي ممكن أن يذهب ليكون “سيّدا” أو “شيخا” يلفّ على رأسه عشرة أمتار من القماش الأسود أو الأبيض، ولا تستطيع أنت ولا غيرك أن تنتقده بكلمة، فهو خط من الخطوط الحمر، -مع تقديري واحترامي لأهل العمائم الأصيلة والنزيهة-.
وإن استثقل العمامة على رأسه فأمامه باب واسع للسياسة، فما أسرع ما تراه قائدا أو رمزا يتسابق الناس للتملّق إليه والتقرب منه، ينظّر لمستقبل البلاد والعباد، وينسج العلاقات على كل المحافل الداخلية والخارجية، ولا يمل من سرد إنجازاته التاريخية والمستقبلية، ويتعجب منكم كيف لم تعرفوا قدره طيلة هذه السنين، نعم هو قد لا يكون خطّاً أحمر، لكن لديه من الأدوات الناعمة والخشنة ما يجعلك تفضّل الصمت، وكظم الغيظ؛ إنه يستطيع أن “يحرقك” ويحرق سمعتك ومكتبتك وكل شهاداتك بإشارة واحدة.
.
تقول: إنه كان راسبا في الثالث أو السادس الإعدادي، وأنه كان قد فشل في الدخول إلى الجامعة؟ لا يا أستاذي، معلوماتك قديمة، أبشرك لقد استطاع الحصول على الماجستير يوم السبت، ثم حصل على الدكتوراه يوم الأحد أو الاثنين، الأمر أهون بكثير مما كنتم تقولونه لنا.
تقول: في أي اختصاص؟ لا يا أستاذي، هو يحصل على كل الاختصاصات مرة واحدة؛ في الدين والسياسة والاقتصاد وكل ما تعرفه وما لا تعرفه.
تقول: كيف يصدّقه الناس وهو لم يؤلّف كتابا أو بحثا، وربما لم يكتب مقالة واحدة في حياته؟ أستاذي الناس تطوّروا كثيرا عن السابق، ليس لديهم الوقت ليقرؤوا، إنهم يكتفون بنظرة واحدة إلى ماركة الحذاء أو ربطة العنق، أو أي علامة من علامات الدعاية التجارية أو “فن التسويق الحديث”، نعم هذا يكفي، حتى أنت لا يفهمك الناس مما كتبت وألّفت وحاضرت ودرّست وناقشت، وإنما سيسمع الناس لما يقوله هؤلاء عنك، سيّدي أنت لا تعرف كيف تخاطب الناس، هؤلاء يعرفون.
.
أستاذي أرجوك ابقَ في ترابك ولا تسأل عن هذا العالَم، ستتألم كثيرا، فالتراب يا أستاذي لم يعد يعلو جسدك فقط، إنه يعلو كل مؤلفاتك وبحوثك ومكتبتك الثابتة والمتنقلة على السواء، هكذا هي ثقافة هذا الجيل، وثقافة هذه المجتمعات التي يتصدّرها هؤلاء “الأفذاذ”.
****
أكتب هذه الخواطر بعد أن أصبحت متأكّدا أن مجتمعاتنا العربية قد أصبحت مهددة بالفعل بفيروس الفساد الذي نما وترعرع في ظل الفوضى والمزاجية التي باتت تحكم أغلب مؤسساتنا، وأخذت الطفيليات الخبيثة تلتف على ما تبقى من عناصر الخير في هذه الأمة، قاتلة روح الجد والمثابرة والمنافسة الشريفة، هكذا قال لي أحد الناس البسطاء: “سبحان الله ليش ناس تدرس وتتعب عشرات السنين، ثم يأتي شخص من تحت الأرض لا دراسة ولا علم يمكن بسفرة واحدة أو بجلسة شاي ينسفهم كلهم”، قلت: ربما هذا هو المطلوب، حتى يتوصل الناس إلى نفس هذه الفكرة.
إن إحياء القيم الأصيلة، وتصحيح معايير التقويم أو “التقييم” لأفكار الناس وسلوكياتهم ومستوياتهم يعد الحجر الأساس لتصحيح المسار ومحاربة الفساد، والله المستعان.
.
د محمد عيّاش الكبيسي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق