تدويناتمنوعات

مناقشة فقهية لمسوغات تعليق الجمعة بسبب كورونا في موريتانيا.

إلى معالي السيد وزير الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي، حفظه الله وسدده.

هذه الورقة العلمية أعدها الأئمة والمشايخ
– عبد الله ولد أمين،
– محمد يسلم محفوظ
– محمد سالم دودو،

وسلمها عشرات العلماء من أبرزهم:
– الشيخ محمد الحسن ولد الددو
– الشيخ محمد الأمين مزيد
– الشيخ محمد سيديا ولد اجدود (النووي)
– الشيخ محمد عبد الرحمن أحمد (ولد فتى)
– الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديا
– الشيخ أحمد شيخنا أمات
– الشيخ أحمد بن محمد بن زاروق
وعشرات العلماء والأئمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم،

الموضوع: مناقشة فقهية لمسوغات تعليق الجمعة نواكشوط؛

إلى معالي السيد / وزير الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي، حفظه الله وسدده..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

أما بعد؛
لا يختلف اليوم فقيهان في البلد ولا في غيره في خطورة الحالة الوبائية المتفشية في العالم، ولا في وجوب الأخذ بالاحتياطات اللازمة لحفظ الأنفس منها.. ولا يختلف طبيبان في أنه لا علاج لهذا الوباء، وأن أنجع السبل للوقاية منه والحد من انتشاره تكمن في تطبيق ما اصطلحوا عليه بالتباعد الاجتماعي .

ومن هنا نشب الخلاف بقوة وحدة بين الفقهاء في سبل تطبيق توصية الأطباء بالتباعد الاجتماعي في صلاة الجمعة باعتبارها ذروة الاكتظاظ وقمة الزحام في المساجد. فذهب الفريق الأول إلى الدعوة لتعليق الجمعة حتى تنجلي الغمة، تقديما لكلية حفظ النفس. ورأى الفريق الثاني أن جلب المصلحتين ودرء المفسدتين متاح ميسور، فلا تعارض في نظرهم بين إقامة الجمعة وبين دفع المفسدة المترتبة على الزحام لها جلبا لمصلحة التباعد الاجتماعي المتوقفة على منع ذاك الزحام، ودفعا لمفسدة تعطيل الجمعة.

وقد أفتت بالرأي الأول عدة هيئات وشخصيات علمية معتبرة كالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والأزهر الشريف، وهيئة كبار العلماء السعوديين، ولجنة الفتوى بالكويت.. وغيرها، كما أخذت بالرأي الثاني هيئات وشخصيات علمية معتبرة أخرى كرابطة علماء المغرب العربي، ودار الإفتاء الليبية، والمجلس الإسلامي بأمريكا الشمالية، والمشيخة الإسلامية بالبوسنة.. وهيئة الفتوى بماليزيا.. وغيرها، كما رجعت إليه – جزئيا رئاسة الشؤون الدينية بتركيا.

وسنعرض في هذه الورقة وجهة النظر التوفيقية هذه، باعتبارها الرأي الذي نراه وندعو إلى الأخذ به، جلبا للمصلحتين ودرءا للمفسدتين، بل هو الأصل الذي لا ينبغي الانتقال إلى غيره، إلا ببينة لا يجوز العدول عنها.

وننطلق فيه مما تضافرت عليه الأدلة وأجمعت عليه الأمة من أن الجمعة شعيرة من شعائر الله التي أمر بإظهارها وحض على المواظبة عليها، وأوجب تعطيل المصالح الحاجية في سبيل إقامتها.. فلا مدخل للاجتهاد في تعطيلها ولا تعليقها.

والنصوص في عينية الجمعة على الأفراد المكلفين، وفي يسر الترخيص لهم في التخلف عنها من الشهرة والاتفاق عليها بحيث لا يليق إقحامها في موضوع نازلة اليوم.

وإنما البحث والنظر في خطاب المجموع بها؛ فعزائمه ورخصه، لا في خطاب الآحاد بها، ولا في عزائمه ولا في رخصه أيضا. ومن غير اللائق إقحام يسر الرخص للأفراد في نقاش حول الرخص لأي مجموع، أحرى لكل مجموع.

وأيسر ما اطلعنا عليه من الأقوال في الجمعة أنها فرض كفاية على مجموع كل أهل بلدة وجبت عليهم. فإن أقيمت فيهم بمن تنعقد به سقط الإثم (على هذا القول الأيسر) عن الباقين من أهل الأعذار وبقي على غيرهم، وإن لم تُقَم فيهم أثم الجميع. ولذلك حرص الفقهاء في كل المذاهب على تذييل أعذار الأفراد بقيد (ما لم يؤد أخذهم بالرخص إلى تعطيل الجمعة بالبلدة)، ونحوه.

وإذا كانت هذه هي خلاصة الحكم في الأحوال الاعتيادية وشبه الاعتيادية، فلا مانع أن يتغير هذا الحكم في الأحوال الاستثنائية وشبه الاستثنائية، بقدر ما تدعو إليه الضرورة أو الحاجة، وهذا الذي يجب تأمله والبحث فيه، في ضوء نازلتنا اليوم.. وما يوصي به الأطباء حفاظا على سلامة الأنفس.

ولا خلاف أن الرخص هي رفع للحرج بالتيسير، وليست رفعا للتكليف بالإسقاط إلا حيث جعلها الشارع كذلك بالنص، كما في الصوم، لا بالاجتهاد. أي أن من العبادات ما تدخل الرخص في أصله كالصيام يسقط بالكلية، ومنها ما لا تتجاوز الرخص أوقاته ومقاديره وكيفياته، ولا تعود على أصله بالإلغاء كالصلاة؛ تؤخر وتقصر وتأخذ صورا أخرى في الخوف، ولا تسقط إلا بسقوط أصل التكليف. ومن قبيل الأول صلاة الجمعة بالنسبة للآحاد، وهي من قبيل الثان بالنسبة للمجموع، لا يسقطها إلا العجز عن إقامتها، لا ما دونه.

وبناء عليه؛ فإن إسقاط التكليف بالجمعة أو رفعه أو تعليقه بالاجتهاد، مناف لأصول النظر، وهو الذي يحتاج إلى دليل يناسبه، ولا يكفي فيه تكرار رخص الآحاد، ولا التذرع بضرورات – على فرض الاتفاق عليها – يلزم تقديرها بقدرها دون زيادة، ولا يتوسع في تعميمها على غير محلها.

وأما الترخص في الجمعة فيما دون أصل إقامتها، فلا نمانع في شيء منه، بأي ضرورة تقرها جهة مختصة كالأطباء في نازلتنا اليوم. ونرى أن التدرج في هذه الرخص يمكن تصوره حسب المستويين التاليين؛

– الأول: إقامتها في الجوامع كلها مع تقليل الأعداد ومنع الاكتظاظ بحسب سعة المسجد، ومنع التقارب، واتخاذ سائر الاحتياطات، حتى ولو قصر شهودها على اثني عشر رجلا مثلا، في مسجد يتسع لثلاثمائة مصل فما فوق.. وهو كاف قطعا في تحقيق توصية الأطباء بخصوص التباعد الاجتماعي.

بل لا نرى مانعا من اتخاذ الوزارة قرارا بتحويلها مؤقتا إلى ساحات المساجد وسطوحها، لتكون في وضع مغر بالترخص في التخلف عنها، ولا سيما للمرضى والضعفاء وكبار السن.. وغير مشجع على الاكتظاظ، ولا ملائم لانتقال الفيروس.. وهذا ما لا نتوقع أن يعترض عليه الأطباء لشبه انعدام المخاطر فيه.

ويبقى السؤال هل تستطيع الجهات الإدارية والأمنية وجماعات المساجد فرض ذلك وضمان تطبيقه؟

فإن كان الجواب نعم، فلا إشكال، وإن كان بالنفي فالعذر بالتعذر وارد أيضا.

وهذا هو أول مستوى من الترخص ينبغ النظر في إمكان الاكتفاء به، فإن تيسر وإلا انتقلنا إلى المستوى الموالي.

ثانيا: إقامتها في مساجد معينة، وأقلها جامع واحد في كل مقاطعة أو مركز إداري أو نحوه في عموم البلاد، مع اتخاذ التدابير السابقة، وفرضها بالتعاون بين جماعة المسجد والسلطات العمومية.. ويمكن إغلاق أبواب المسجد فور دخول العدد الآمن إليه، وتوزيع الباقين على السطوح والساحات والشوارع بتباعد يحقق توصية الأطباء.

وعجز السلطات الإدارية والأمنية وجماعات المساجد عن تطبيق هذا الخيار غير وارد ولا متصور.

وقدرة الوزارة على منع الجمعة في بعض المساجد وإبقائها في البعض، أيسر من كل وجه، وأقرب لفقه الضرورات من منعها في جميع المساجد.

وإنما قلنا إن هذا هو أقل الممكن بناء على أيسر قول معتبر نعلمه في الفقه كما تقدم، وهو أنها فرض كفاية على كل أهل بلدة. فإن وجد قول في الفقه معتبر يفيد أن إقامة أهل بلدة لها تسقط طلبها عن بلدات أخرى، فليصر إليه بضوابطه، ولا حرج.

ويمكن للوزارة أن تعتمد في اختيار الجامع المرخص له معيار الأقدمية، فتقصر الجمعة – مؤقتا – فكل بلدة على جامعها العتيق دون غيره، وإن ارتأت العدول عنه إلى جامع أنسب لهذه الظرفية الاستثنائية سواء من حيث الحجم أو الساحات المحاذية له أو الموقع أو غيرها من الأمور الموضوعية، فلا حرج.

وخلاصة القول؛ هي أن الآراء في هذه النازلة – على تباينها – لا تخرج عقلا، ولا واقعا عن طرفين وواسطة؛

1. طرف ينادي بتجاهل الوضع كليا، ويطالب بإبقاء ما كان على ما كان من كل وجه، وينكر إشهار الرخص للآحاد بالتخلف، ويرفض تطبيق التباعد الاجتماعي بأي وجه.. وهذا ما لم نسمع أحدا ينادي به حتى الآن. وإن وجد كان حقيقا بوصمه بالتزمت والتشدد والتنطع.. وإرادة فرض فقه الحالة العادية في الأوقات الاستثنائية، وحتى اتهامه بالاستهتار بالأنفس.. ونحو ذلك.

2. طرف ينادي بتعليق التكليف بالجمعة، ويرفض ما دون ذلك من رفع للحرج ودفع للمخاطر، كفرض الاحتياطات الاحترازية، وكإشهار رخص التغيب، والحد من الحضور، وإقامة الجمعة في بعض المساجد دون بعض.. فهذا حقيق بأن يُذَكر بأن رفع التكليف شيء مرفوض، ورفع الحرج أمر مقبول.. وأن التيسير لا يصل حد الإسقاط (أو التعليق) إلا بنص من الشارع.

3. وبين الطرفين الأول والثاني واسطة تنادي بالتدرج في الأخذ بالرخص، مع التشدد في الاحتياطات حسب ما تمليه الضرورات التي يعبر عنها الأطباء، وحسب القدرات التي تمتلكها الطواقم الإدارية والأمنية وجماعات المساجد.. وهذا هو النمط الأوسط الذي ينبغي أن يلحق به التالي ويرجع إليه الغالي.

وفقنا الله وإياكم أجمعين لرعاية ودائعه، والمحافظة على تعظيم شعائره.

الشيخ / عبد الله ولد أمين
الشيخ / محمد يسلم ولد محفوظ
الشيخ / محمد سالم ولد دودو

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق