في طريق العودة :
وصلت محطة النقل المركزية في كولدا (Colda) على الحدود مع غينيا بيساو وكانت الساعة تقترب من العاشرة صباحا آملا أن أصل دكار (Dakar) في وقت غير متأخر جدا من الليل قطعت التذكرة رقم 3 وهذا يعني أنني سأجلس بين راكبين في مقاعد الوسط توكلت على الله وجلست بجانب سيدة غينية بعد قليل جاء رجل موريتاني يلبس جبة قديمة من ” تركال” انطوت من أسفلها حتى وصلت الركبة أو كادت و كأنها هي المعنية بقول الشاعر واصفا mini jupe :
ولا زالت العذراء مي حريصة
على نقصه شبرا فباعا فأكثرا
ولا زال يعلو في القوائم صاعدا
دوين الصفا اللائي يلين المشقرا .
وقد اعتم بعمامة سوداء من قماش النيلة يحمل على منكبه مخلاة من قماش، قطع التذكرة الرابعة وجلس بجواري وكنت أرتدي بذلة veste وأغطي رأسي بقبعة وألبس نظارات سوداء وفي يدي مظلة ، نظر إلي متفرسا لاحظت من نظراته أنه متردد ، خطرت لي فكرة سريعة وهي أن أتنكر في قالب أجنبي مستعينا بما ذكرت من “مظهر ماه متبيظن حت ” إذ لو عرفني لظل يسأل ويستفسر ويهذي حيث توسمت فيه البداوة وحب الاطلاع فملامح الرجل تخفي وراءها الكثير مما يمكن أن يقال في هذا الشأن وأنا أميل بطبعي إلى الهدوء . كان قرارا صعبا سيستمر تطبيقه مع مقتضياته يوما وليلة تقريبا ، بعد نظرة طويلة متفحصة خاطبني : انت السلام عليكم ، لم أرد التحية علنا بل أسررتها في نفسي ولم أبدها له . ركز علي بتمعن وقال : أنت جزائري أم مغربي ؟ لم أكلمه بل تسمرت مكاني كمن لا يعنيه الأمر ، سكت قليلا وقال وهو هذه المرة يحدث نفسه : ” ألا أثرو من هاذو برطوكيص ” يعنيles portugais وهم مستعمرو غينيا بيساو ، سكت قليلا وسلم باللهجة الغينية المسماة ” كريول” (créole) لم أجبه فبادرت المرأة إلى رد السلام ، بعد أن تبادلا التحية ، سألها بلكنة تشي بضعف مستواه في تلك اللهجة : ممن الرجل؟ فهمت بصعوبة قصده ، وأجابته : لا أدري ، نظر إليها شزرا وأنشد :
عجوز ترجي أن تكون فتية
وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر
تدس إلى العطار ميرة أهلها
وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر.
في هذه الأثناء انطلقنا من المحطة وهو يقرأ دعاء السفر وأنا أردده خلفه سرا. عند الخروج من المدينة اعترضتنا فرقة تفتيش طلبوا منا إبراز بطاقات الهوية فكرت سريعا ونزلت لأوهمه أن لدي حاجة أبرزت البطاقة للشرطي فردها إلي وركبت من جديد وأنا أفكر في الحيلة الموالية حتى لا ينكشف أمري ، استسلم للأمر الواقع وسكت لفترة تقارب ربع ساعة ثم ترنم بأبيات لابن الفارض على ما أعتقد:
حديثه أو حديث عنه يطربني
هذا إذا غاب أو هذا إذا حضرا
كلاهما حسن عندي أسر به
لكن أحلاهما ما وافق النظرا .
ثم بأبيات لأبي نواس :
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
بها أثر منهم جديد و دارس
أقمنا بها يوما ويوما وثالثا
ويوما له يوم الترحل خامس
تدار علينا الراح في عسجدية
كستها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس
كان صوته عذبا شجيا فيه رقة ذكرني بسيداتي ولد آبه رحمه الله ثم حكى لأحمدو السالم ولد الداهي :
يلعوينات ال اعليك ** ما نوخظ كاع ولا انجيك
ما فيك من ال كان فيك** نعرف يكون أصدارك
واديارك مال لعد بيك ** غير ال طيت أخبارك
نعرف يل ل فيك حظ ** دهر امعدل فديارك
وامبارك ول ينكبظ ** من قيمة دهر امبارك
ثم :
ابجاو ماش منويش
الظهر اروح احواش
لعويج لماراح تيش
طيات أهل الخراش
ثم :
من صاب اسلام ريت كور ***يتحمل تبلاغ
لجدور البون ولجدور *** لخرين وعكد اللاغ
ثم لمحمد باب ول محمد ول أحمد يوره :
اكدم تنيدر من صلاح** أغفرشيت أمال يراح
حد من اعلاب الحاس راح** بعد انفراك ذ كدو
وانفراكه منها ما صاح**لوتد كون اواجه وتدو
وحد اعل زيرة لوتد لاح** عينو شكند ارخ بعدو
وزيرات السياح من امراح** شكند اكدو ينعدو
وحد اعل زيرات السياح** ذاك اكدم تنيدر عندو.
سكت لفترة ثم مررنا بمكان تضافرت أغصان دوحه فوق رؤوسنا وتشابكت فحجبت الشمس ،أنشد مرة أخرى من قصيدة المتنبي في وصف شعب بوان بأرض فارس :
فسرت وقد حجبن الشمس عني
وجئن من الضياء بما كفاني
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرا تفر من البنان
لها ثمر تشير إليك منه
بأجنحة وقفن بلا أوان
وأمواه تصل به حصاها
صليل الحلي في أيدي الغواني….
ثم أنشد للشاعرة الأنداسية حمدونة بنت المؤدب :
وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيث العميم
حللنا دوحه فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمإ زلالا
ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أني واجهتنا
فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم
ساد صمت طويل تلقى أحد الركاب مكالمة من شخص في” سكون” مدينة سينغالية على ما يبدو ، قال الكهل محدثا نفسه : ذيك هي ال كال فيها محمد ول ابنو :
أقمنا فيك دهرا يا “سكون”
مقاما لا تقدره الظنون
أقمنا فيك دهرا غير قصد
ولكن المقدر قد يكون
فصبرا يا “سكون” فكل دهر
يمر به التحرك والسكون .
وصلنا ظهرا إلى مدينة Vilingara توقف السائق للصلاة دخلت المحل المقابل لأتفاجأ بموريتاني هو البائع “والكهل عند أكتافي ” قلت بسرعة كوكا ، كوكا ناولني المشروب وقفت عند الباب سأل البائع الرجل أليس هذا بموريتاني أجاب : كلا إنه من البرازيل على ما أعتقد . قال : إنه يشبه العرب ، أعدت الزجاجة لصاحب المحل سألني : أنت من الإخوة العرب؟ لم أعره اهتماما ، أجابه الكهل : ” كتلك ذاك امنادم ماه من أهل ذ الارض الا كطيت شفت نوعو هون آن جيت هون1963 ولا هون قبيله مانعرفها وهو حاولت إلين ذاك انصدو اعل جيها وهو لا مدخل ولا مخرج .” قال له الآخر “انت كاع يوالدي اشلك بمعرفتو يلي لا اجيبو ” قال ” ماه خالك ،ألا النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لقي الرجل سأله عن اسمه واسم أبيه .” أجابه : ” ذاك اص حد عندو اسم ولل بو ، هاذ بلا اسم وبلا بو افتصل امعاه يعطيه لخل ” .
خرجت من المحل وأنا مصمم على أمرين : الأول أن أنزل في المدينة الموالية Tambacounda و قد فعلت والثاني ألا أقيم شخصا انطلاقا من مظهره فكثيرا ما أسمع أن المظاهر خداعة فقد خدعت قبلي أباحنيفة ( النعمان ابن ثابت) ، نزلت بعد أن شنفت مسامعي شعرا من مرافقي وسبابا من التاجر.وقبل وصولنا بقليل إلى تامبا حكى ” طلعه” لم يسم قائلها تتحدث عن الدنيا وزوالها وأحوالها ، حفظت ” كاف الطلعه” وهو :
ظرك اص غرزت واتمركات
ولا فيها يل يخزيها
ال تتفارط كاع اتلات
اعليه الناس اركابيها
………………..
ملحوظة : ما أوردته هنا من النصوص هو ما حكاه ذلك الرجل مما أحفظه فقط وهو غيض من فيض إذ كان قد صال وجال مشرقا ومغربا بين الفصيح والشعبي . وقد ندمت كثيرا لتفريطي في الاستفادة منه بذلك القرار الأرعن وهو ما اضطرني إلى قطع الرحلة قبل انتصاف الطريق .