في ظلال الحروف
المختار السالم

مهما تقرحت الأجفانُ فلن تعجزَ عن أجملِ الأحلامِ.
وهو قد يعثرُ على حلمهِ ولو في إغفاءةِ منتصف الطريق، فقد نامَ غربَ الشجرةِ يُهدْهدهُ نسيم الصباح، قبلَ أن يستيقظ على لفح القيظِ يشوي الهواءَ في رابعةَ النهارِ.
في فجرِ الصحراءِ، قرب واحةِ “المشتى” يسترسلُ النسيمُ المشبع برائحة اليتُّوع والتيدوم والطلح والنخل والأراك والتمامِ والسدر والبشامِ والعلندا.. لكن في عزِّ الزوالِ تكادُ رئةَ الزمنِ تمسحُ لحظةَ يبدأ القيظُ حتى يتحولَ بريقًا في لوحة تـنزى حبرًا بأكثر من ريشة وأكثر من لونٍ وأكثر من “لا لون”.
في شواظ القيظ تتحولُ الحفرُ الداكنةِ إلى مرايا تترقرقُ بالسرابُ في ذلك “الزمانِ / المكانِ” الموسومينِ دومًا بخُطىً تتوردُ في وشم الخلاءِ!
شيء ما يهدهدُ أعصاب شاعر البيدِ وهو على راحلتهِ. كل شيء وارد. واردٌ أن تطاردك “أفعى البجوان”، واردٌ أن تبتلعك الآبار المطمورة، الرابضة تحت قشرة الأرضِ، فتلتقمكَ؛ أنتَ والجملَ والراحلةَ. ولا يعرف أحدٌ ماذا يحدث بعد ذلك. الأمر صعبُ التحملِ حتى في التصور على الأقلِّ بالنسبة لمن وجد نفسه ذات يوم في مشهد مشابه.
واردٌ أيضًا أن يغدرَ بكَ حيوانٌ متوحشٌ.. دائمًا يحذروننا من ذلك الزئير الذي نسمعهُ، إنه ليس لأسدٍ بحسب ما يزعمون، ربما لنمرٍ أو لجارحٍ آخر. ناس الصحراء يميزونَ الصوتَ المِخلبيَّ عن سواه.. الصوتُ المعزوفُ من بين الأنياب المفترسةِ لا يشبه أي صوت آخر، كالذي تصدرهُ المعشباتُ، أبدا. وهو يعرف أنَّ بعضَ المعشبات أشدّ خطرًا حين تهاجمُ، كالثور الوحشي والجملِ الغاضبِ. عندما يتحولُ الجملُ إلى مفترسٍ غالبًا لا يأكلُ إلا لحم البشر.
في تلك البيداء، بيداء البيداء، قفر القفارِ، وخلاء الخلاء، الموت السريع محتَّم على كلِّ المخلوقاتِ.. مع ذلكَ يزدادُ الإصرار على الحياةِ.. إصرار نبتة تنبثق من لثة الرملِ الحار، إصرارُ حفر على الاحتفاظِ ببقيةِ ظلِّ حتى يتمكن العابر من قبضة تراب تقيهِ الرمضاء للحظاتٍ.
هناك ما لا يعرفهُ أبدا.. متى يعثرُ على ضالته أو يرى بشرًا نهارا، أو يلمع له، ولو من بعيدٍ، ضوء نار ولو لم تكن “نار المحرق”.. في الظلمةِ الظلماءِ، العتمةِ الفخمةِ، يصعبُ على الإنسان إلا أن يُحس بأنَّ رائحة دخانِ الحطبِ أشهى ملايين المرات من بخور ليلى وهند ودعد وبثينة وجميلة وأروى وسلمى، وكل اللواتي نوَّرْنَ الكحل أمراً، فعطَّرْنَ الشعر ذكرا.
عندما يمتطي الفرح رائحة الدخان تولدُ لغة ومشاعر أخرى لعالمٍ آخر لا تعرفه القرى التي تستفتح بذمةِ فلس.
غريباً كانَ في عتمةٍ استكملتِ الإظلامَ.. سمع ذلك الصوت، وكان صوتًا قريبا إلى حدٍّ رهيب، كان مُدهشا ومفزعًا.. ويصعب أن يخطرَ ببالهِ. لقد أحسَّ بالسهم الناريِّ يمرُّ من جسرِ الهواء بين كَتِفه وأذنهِ، كاد يختنق. إنه على مسافة لا تحتمِلُ فرصة المراجعةِ. مسافة عازلة بنفوذ ورقة توت. أمرٌ مرعبٌ في عتمةٍ لا تنقصُ النجومُ من أطرافها.. ما من شيء يتحركُ، ولا صوت يسمع لحيوانٍ ولا دبيبَ خشخاش. فماذا يحدث! إنه لا يعرفُ. ليس من فعل جانّ، فالجن لا يطلقونَ التحذيراتِ! هل هناك من يترصدهُ، ولماذا يترصده! قد يكونُ اشتبه على صاحب ثأر قديمٍ، أو دخل منطقة رماية، ولكن من الرامي في هذه العتمةِ الكارثة؟
ما الذي يجري.. يبتهل فحسبْ كي لا يسمع دويًّا آخر.. ثمَّ استعادَ عقله عندما أخذت تمطرُ فجأة. فيا لأيام “تميمِ الرحلِ”، الذي لا يذكرُ ولو في الحِكَايةِ. كان على الشاعر أن يجرحَ ذمَةِ الحكاية لكي تَـنزفَ. آثرَ أن يغفوَّ وقد اتخذ المطرُ جسدهُ وترًا يعزفُ عليهِ.

___
تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب”